الفكر
الإسلامي
وحدة
الأمة الإسلامية في القرآن والسنة(*)
بقلم
: (فضيلة الشيخ)
مرغوب الرحمن
رئيس
الجامعة الإسلامية : دارالعلوم / ديوبند
ديوبند
، يوبي ، الهند
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاةُ والسلامُ على نبينا سيدِ المرسلين ، المبعوثِ خاتَمًا للأنبياء ورحمةً للعالمين ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد :
فيسرّني
جدًّا وأنا أشارك في هذا الملتقى المُشَرِّف الكريم ، الذي يجمع خيرةَ علماءِ
ومُفَكِّري ومُثَقَّفي ودعاةِ الأمة من أقطار العالم في رحابِ البيت العتيق ومهدِ
الإسلام ومهبطِ الوحي والبلد الذي كان فيه آخر اتّصال للأرض بالسّماء .
أن
أشكر شكرًا جزيلاً لرابطة العالم الإسلاميّ مُتَمَثِّلَةً في أمينها العامّ العالم
الداعية المفكر والمؤلّف الإسلامي أخينا المفضال معالي الدكتور عبد الله عبد
المحسن التركي الموقر / حفظه الله ورعاه مع مزيد من التوفيق لمزيد من خدمة الإسلام
والمسلمين؛ حيث أَتَاحَتْ لي هذه الفرصةَ المباركةَ ؛ لكي أشارك في هذا الملتقى
الذي ينعقد حول هذا الموضوع الذي يهمّ الأُمَّة وظلّ يهمّها وسيظلّ يهمّها دائمًا
: موضوع «وحدة
الأمة الإسلامية» فأُمَثِّلَ أعرَقَ
وأكبرَ جامعةٍ إسلاميةٍ أهليةٍ في شبه القارة الهنديّة تُشَكِّلُ بحقّ «الجامعةَ
الإسلاميةَ الأهليةَ الأمَّ»
التي منها تَفَرَّعَتْ مُعْظَمُ المدارسِ والجامعاتِ الإسلاميةِ في هذه الديار وهي
الجامعة الإسلامية : دارالعلوم / ديوبند بالهند .
وأَنْتَهِزُ
المُنَاسَبَةَ لأُبْدِي غايةَ إِعجابي وتقديري للقيادة الرشيدة في هذه المملكة
الخيّرة التي خدمت وتخدم الحرمين الشريفين وضيوفَ الرحمن من الحجيج والمعتمرين،
والركع السجود، بشكل منقطع النظير، وتشمل بخيراتها وبركاتها المسلمين في أرجاء
المعمورة. وعلى رأسها خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ عبد الله بنُ عبدِ العزيز –
حفظه الله مع الصحة والعافية والتوفيق الدائم لكل خير – و وليُّ عهده الأمينُ
صَاحِبُ السُّمُوِّ الْمَلِكِيِّ الأميرُ سلطانُ بنُ عبدِ العزيز نائب رئيس مجلس
الوزراء و وزيرُ الدفاع والطيران والمفتشُ العامّ – حظفه الله ورعاه – جزاهما الله
خيرًا على كل ما يسديانه من خير مرئيّ وغير مرئيّ إلى المسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها ، وصانهما من مكائد الأعداء و من شرّ كل حاسد إذا حسد . والشكرُ موصولٌ
لجميع العلماء والمفكرين في المملكة العربية السعودية وخارجها ، الذين يَسْهَرُونَ
لمصالح الإسلام والمسلمين ، ويُفَكِّرون ويَعْمَلُونَ باستمرار على النهوض بالأمّة
، وانتشهالها من ورطة مؤامرات الأعداء ، ولُجَّةِ الفُرْقَةِ والشتاتِ إلى شاطىءِ
الوحدة والتضامن . شَكَرَ اللهُ سَعْيَهُمْ ، وقَدَّرَ جُهُودَهم ، وثَمَّرَ
مَسَاعِيَهُمْ، وَنَفَعَ بها الأُمَّةَ .
ِ
أيّها
الإخوة الحضور : العلماءُ والدعاةُ والمفكرون ! إنَّ وحدةَ الأمةِ الإسلاميةِ
وتضامُنَها، وتلاحُمَها وتماسُكَها، واجتنابَها جميعَ دواعي الفُرْقَةِ والشتات،
والتنازع والاختلافِ، مطلبٌ هامٌّ من المطالب الشرعيّة ، وفريضةٌ من فرائض الإسلام
، و واجب من الواجبات التي كَلَّفَ اللهُ بها عباده المؤمنين ؛ فلا مَحِيْدَ لهم
عن الوحدة والأخوّة إذا كانوا مؤمنين، يقول تعالى في كتابه العظيم : «يَا
أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه ولا تَمُوتُنَّ إلاّ
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ o وَاعْتَصِمُوا بـِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا»
(آل عمران/102-103). وَامْتَنَّ الله على المؤمنين أنّه بفضله ومنّه وكرمه وقدرته
المطلقة أَلَّفَ بين قلوبهم ، وجَمَعَ بين مشاعرهم وأحاسيسهم ، وجَعَلَهم قلبًا
واحدًا مُتَمَثِّلاً في قَوَالِبَ كثيرة ، وأَمَرَهم باستحضارهم هذه النعمةَ
العظيمةَ الجليلة والمنةَ الإلهيةَ الثمينةَ ؛ حتّى يَقْدِرُوهَا حَقَّ قدرها
فيُحَافِظُوا عليها ، ويَتَفَادَوْا بها من الضياع ، ويَحْرِصُوا كلَّ الحرص على
الاستجابة لمُتَطَلَّبَاتها والعمل بمُقْتَضَيَاتها ، والتحاشي عن كل تصرف
يُعَرِّضهم – لاقَدَّرَ اللهُ – لحرمانها ؛ فقال عَزَّ من قائلٍ :
«وَاذْكُـــرُوا
نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوْبـِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِه إِخْوَاناً»
(آل عمران/103)
إنّ سياقَ الآية ينطق بشكل واضح بكون نعمة
الوحدة والتآلف القلبيّ بين المؤمنين من العظمة بمكان مُحْتَرَمٍ جدًّا لدى رب
السماوات والأرض ، ولايسع قلمَ بَشَرٍ أن يُعَبِّرَ عنه بنصاب مطلوب، ولا يمكن
لسانَه أن يُفْصِح عنه كما هو حقُّه . ولو لم يكن في القرآن الكريم فيما يتعلق
بالتَّأكيد على عظمة نعمة الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية إلاّ هذه الآيةُ،
لكفى المؤمنين المستجيبين لأوامر الله، عملاً بها، وحرصًا عليها، وتسارعًا إليها،
ورغبةً قويةً في العضّ عليها على عِلاّتِهم؛ ولكنه هناك آياتٌ كثيرةٌ في كتاب الله
عزّ وجلّ تُؤَكَّد الوحدةَ الإسلاميةَ وتُذَكِّر المؤمنين بفضلها الكبير، وقيمتها
الخاصّة لدى الله ؛ لأنّها لاتتحقق إلاّ إذا شاءها هو؛ فلا تتأتّى – إذا لم يَشَأِ
الله – ولو أُنْفِقَ ما في الأرض جميعًا . يقول تعالى :
«لَوْ
أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جميعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبـِهِمْ ولـٰـكِنَّ
اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ»
(الأنفال/63) .
إي
واللهِ، ما أَعْظَمَ الألفةَ الإيمانيّة والمودّةَ الإسلامية وما أقواها بين جميع
الأواصر والروابط؛ فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنّه قال : قَرَابَةُ الرحم
تُقْطَعُ، ومِنَّةُ النِّعْمَةِ تُكْفَرُ، ولم يُرَ مثلُ تَقَارُبِ القُلُوبِ ؛
يقول الله تعالى: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بين قلوبِهم».
وفي رواية أخرى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : إنَّ الرَّحِمَ لَتُقْطَعُ ،
وإنّ النِّعْمَةَ لَتُكْفَرَ ، وإنّ الله إذا قَارَبَ بين القلوب لم يُزَحْزِحْهَا
شَيْءٌ ثم قَرَأَ هذه الآيةَ.
ولكون
الألفة الإيمانية والوحدة الإسلامية ذاتَ هذه الأهميةِ دعا كتابُ الله تعالى إلى
تفادي جميع الأسبابِ المُضِرَّةِ بهذه الوحدةِ والأخوةِ ، فَمنَعَ عن التنازع
المُؤَدِّي حتمًا إلى الفشل وذهاب الريح ؛ فقال تعالى :
«وَلاَ
تَنَازَعُوْا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ»
(الأنفال/46) . فإن تنازعوا وخضعوا للاختلاف والشتات ، فَسَيَتَخَاذَلُونَ
ويَنْهَزِمُونَ ويَغْلِبُهُمُ الْعَدُوُّ ، وتذهبُ رِيْحُهُمْ ، أي قوتهُم
وحِدَّتُهم وما كانوا فيه من الإقبالِ .
ولذلك
نهى الله تعالى نهيًا مُؤَكَّدًا عن الإذعان للتفرّق والتنازع والاختلاف الذي
يعتمد على الهوى والنفسانية والأنانيّة ، فقال :
«وَلاَ
تَكُوْنُوا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوْا وَاخْتَلَفُوْا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنـٰـتُ وَأُولـٰـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عظيمٌ» ( آل
عمران/105) .
نهى
اللهُ هذه الأمّةَ أن تكون كالأمم الماضية في تَفَرُّقها واختلافها، من بعدما قامت
الحجة عليها، فأصبحت مُسْتَحِقَّةً للعذاب الأليم – أعاذنا الله منه جميعًا –
فالوحدة الدينية والأخوة الإيمانية مطلبٌ أسمى في الإسلام ، ولذلك دعا إليه دعوة
مكثفة مؤكّدة ، ونهى عن كل ما من شأنه أن ينقض عُرْوةَ الوحدة ، ويجعل الأمةَ
تتفرق وتتصارع ، فتَفْقِدَ الرعبَ وتُحْرَمَ الهيبةَ، وتُصْبـِحَ غُثَاءً كغثاء
السيل ، كما هو واقع الأمة اليوم . وتغييرُ هذا الواقع يَتَوَقَّف على عودة الأمة
من جديد إلى الاعتصام بحبل الله – مجتمعة متحدة متراصة – أي بالقرآن الكريم أو
بعهد الله؛ فإن القرآن – كما رُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه مرفوعًا – حبلُ اللهِ
المتينُ وصِراطُه المستقيمُ وهو النورُ المبينُ . والأمرُ بالاعتصام بحبل الله
جميعًا دعوةٌ للأمة المسلمة دائمةٌ وقائمةٌ مستمرةٌ في كل زمان ومكان ، فما دام في
الأرض مسلمـون، وجب عليهم الالتفاف حول القرآن قلبًا واحدًا، وإن كانت قوالبهم
شتّى . فالقرآن الكريم : تلاوتُه والتأملُ فيه والعملُ به والتمسكُ بما فيه من
الأوامر والنواهي ، والوصايا والمواعظ ، والدروس والعِبَر ، وذكر الزواجر والقوارع
، والإنذار والتبشير، وأحوالِ كل من أهل الجنة وأهل النار، وتفاصيل نعيم الجنة
وعذاب النار، وما إلى ذلك يُوَحِّد الأمّة ، ويجمع كلمتَها ، ويؤلّف شملَها ،
ويوجد لها من القاسم المشترك ما يجعلها متِّحدًا متضامنًا ، متعاونًا متماسكاً،
يأخذ بعضُها بحجز بعض رغم الاختلاف في كثير من الأمور الفرعيّة التي ليست من
ضروريات الدين أو ثوابته . إن تُلاَةَ القرآن والعاملين به حقًّا لن يختلفوا
اختلافًا تَتَفَرَّقُ بهم من أجله السُّبُلُ ؛ ولهذا قال الله عَزَّ وجَلَّ:
«وَأَنَّ
هذَا صِرٰطِيْ مُسْتَقِيمًا فَاتَّبـِعُوه وَلاَ تَتَّبـِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بـِكُمْ عَنْ سَبِيلِه ذٰلِكُمْ وَصّـٰـكُمْ بـِه
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»
(الأنعام/153) .
قال
ابن كثير – رحمه الله – ناقلاً عن ابن عباس – رضي الله عنهما – إن الله أمر
المؤمنين في الآيةِ بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبره أنه إنّما
هَلَكَ من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله . ونحو هذا قاله مجاهد وغير
واحد .
وهناك آيات أخرى كثيرة تُؤَكِّد هذا المعنى
وتضغط على هذه الحقيقة : الوحدةِ والأخوةِ والجماعيةِ والتضامنِ ونبذِ الشقاقِ
والخلافِ، والنزاعِ والخصامِ.
ومن
ثم نرى الأعداءَ يخافون دائمًا انتشارَ هذا القرآن – حبلِ اللهِ المتينِ الممدودِ
من السماء إلى الأرض – بين الأمة المسلمة وإقبالها عليه بالتعليم والتعلم،
والقراءة والتلاوة ، والتأمل والإمعان ، والمدارسة و المذاكرة ، ونشره بين الناس ،
ودعوتهم إليه . إنهم يرون القرآنَ أكبرَ صخرةٍ أمام مدّ الباطل الذي يدعون إليه ،
ويخالونه أكبرَ عقبةٍ تجاهَ هيمنتِهم الاستعماريّةِ على الأمة الإسلامية التي
يُلَقِّنُها قرآنُها الإباءَ ويمنحها القوةَ ، ويكسبها الغلبةَ؛ لأنه يجمعها على
الألوان والأوطان ، والأجناس والأعراق ، والميول الفرعيّة ، والنزعات الهامشيّة . ومن
هنا قال أحدُ سَدَنَةِ الاستعمار الأنجليزي ، وهو «اللورد
كرومر»
– وهو يُحَذِّر الاستعمارَ السقوطَ المُحَتَّم والانحسار المُؤَكَّد ، وأنّ عهد
المسلمين قادمٌ لامحالة –: إنّه يستحيل على الاستعمار أن يَسْتَقِرَّ وَسْطَ أمةٍ
يعيش بين ظهرانيها القرآنُ !!.
على
أن وحدة الأمة وأخوّتها لم يُرَكِّز عليها كتابُ الله وحدَه ، وإنّما رَكَّزَ
عليها رسولُه ﷺ أيضًا الذي شَرَحَ
كتابَ اللهِ بقوله وعمله، وفَسَّره بما أراده الله تعالى وبما أُوحِيَ إليه
وأُلقِيَ في روعِه مباشرةً أو عن طريق جبريل عليه السلام .
فعن
ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : خَطَبَنَا عمر بـ«الجابية»
فقال : يا أيها الناس ! إنيّ قمتُ فيكم كمقام رسول الله ﷺ
فينا ، فقال : «...عليكم
بالجماعة ، وإيّاكم والفرقةَ؛ فإن الشيطانَ مع الواحد ، وهو مع الاثنين أَبْعَدَ .
من أراد بحبوحةَ الجنة فليلزم الجماعةَ»
(الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، ج4/ص465 – 466) . وفي حديث
مرسل عن سعيد بن المسيب عن رسول الله ﷺ
، قال : «الشيطانُ
يَهُمُّ بالواحد والاِثنين . وإذا كانوا ثلاثة لم يهمّ بهم»
(الموطأ، كتاب الجامع، باب ماجاء في الوحدة في السفر، رقم الحديث:789).
وعن
ابن عبّاس عن رسول الله ﷺ
أنه قال: «يد
الله على الجماعة» (مسند الشهاب، ج1،
ص168) .
وعن
النعمان بن بشير عنه ﷺ قال وهو قائم على
المنبر: «الجماعةُ
رحمةٌ والفرقةُ عذابٌ» (مسند أحمد،ج4،
ص278) .
وَحذَّر
ﷺ
الفرقةَ تحذيرًا لاتحذير بعده ؛ حيث عَدَّها مُؤَدِّيًا إلى الكفر، فكأن الفرقة من
نحسها ونتائجها الوخيمة أن مُبَاشِرَها يعود كافرًا بالله، بعيدًا عن رحمته،
محرومًا حرمانًا أبديًّا مغفرتَه ورضوانَه . وذلك أَسوأُ عقابٍ مُتَصَوَّر لمن
يرتكب جريمةَ الفرقةِ والشتاتِ ويخرج عن جماعة المسلمين .
يقول
ﷺ
فيما يرويه عنه أبوذر الغفاريُّ – رضي الله عنه – : «من
فَارَقَ الجماعةَ شبرًا، خَلَعَ رَبَقَةَ الإسلام من عنقه»
(مسند أحمد، ج5، ص180) .
وفي
رواية عن ابن عمر – رضي الله عنها – سمع رسول الله ﷺ
يقول : «من
خرج من الطاعة وفارقَ الجماعةَ فمات، مات ميتةً جاهليّة»
(مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)
ولم
يكن الرسول ﷺ ليأمر أمتَه بشيء
ذي بال دون أن يُرْسِيَ له دعائمَه بيده: عملِه، وسيرتِه ، وتحركاتِه الميدانية
كلِّها ؛ فعندما رَكَّزَ القرآن على اتحاد أمة الإسلام وتضامن المؤمن بالله ربًّا
وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ
نبيًّا ورسولاً بالقول ، آخى ﷺ بينهم بالمدينة المنورة بالفعل، وجَعَلَ هذه المؤاخاة
كأخوّة النسب وقرابة الرحم . وهذه المؤاخاة أزالَتْ كلَّ ما كان بينهم، من نزعة
الجاهلية، وأثرة العصبية، وقَرَّرَ ﷺ القواعدَ التي تجعل المسلمين متآخين متناصرين متراحمين
مُؤثـِّرِيْن إخوانَهم على أنفسهم، ولوكانت بهم خصاصة؛ فقال :
«المسلم
أخوالمسلم لايظلمه ولايخذله ولا يحقره ... بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه
المسلم»
(مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، كتاب المظالم ، باب لايظلم المسلمُ المسلمَ
ولايُسْلِمه، ج5/ص97) . وعنه – رضي الله عنه – يرفعه في رواية الترمذيّ : «المسلمُ
أخوالمسلم، لايخونه، ولايكذبه، ولايخذله»
(الترمذي كتاب الحدود، باب ما جاء في الستر على المسلم، ج4، ص34 – 35). وجاء في
صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله ﷺ
قال: «المسلم
أخوالمسلم لايظلمه ولايُسْلِمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن
فَرَّجَ عن مسلم كربةً فَرَّجَ اللهُ عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن سَتَرَ
مسلمًا ستره الله يومَ القيامة»
(مسند الشهاب، ج1/ص244) .
حقًّا
إن المسلم الصادق، الذي تَمَكَّنَ منه إيمانُه، لن يظلمَ أخاه المسلمَ ، ولن
يَرْغب بنفسه عن نصرته والوقوف بجانبه، ولن يُسْلِمه لأعداءِ اللهِ ورسولِه، ولن
يحقره مُعْجَبًا بنفسه . وإذا كان المسلمون تُوثـِّق بينهم هذه الروابطُ الوديّةُ
وهذه الصلات القلبية، فإنّ وحدتَهم وأخوّتَهم لن يخترقها شيطانٌ ولن يُفَكِّكَ
عراها إنسانٌ من تلاميذ الشيطان.
وعندما يبلغ المسلمون هذا المستوى من
التوادد والتراحم والتناصر، يصبحون كتلةً من الروح الواحدة ، فلا يحبّ منها فردٌ
لأخيه إلاّ ما يحبّه لنفسه، فيعودون وحدةً متماسكةً متلاحمةً ، لاروحًا فحسب، ولكن
جسمًا وقالبًا كذلك . وذلك ما أكّده ﷺ بأقواله الكثيرة. منها قوله ﷺ – الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – : «لايؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» (مسند الشهاب، ج1،ص133) . وقوله ﷺ : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحهم وتعاطفهم مثلُ الجسدِ إذا
اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمى» (فتح الباري 1/85) .
ونهى
عن كل شيء يعترض سبيلَ المحبةِ والصفاءِ والوحدةِ، فنهى المسلم عن ترويع المسلم : «لايحلّ
لمسلم أن يُرَوِّعَ مسلمًا»
(مسند أحمد 1/362) . ونهى المسلمين أن يتتتبع بعضُهم عوراتِ بعضٍ وأن يغتاب بعضُهم
بعضًا : «لاتغتابوا
المسلمين ولاتتبعوا عوراتِهم»
(مسند الشهاب 2/84) . ونهى أن يجرح بعضُهم مشاعرَ بعضٍ ويثيروا فيما بينهم دواعيَ
الحقدِ والضغينةِ : «لايَبـِعْ بعضُكم
على بعض ، ولايخطب بعضُكم على خطبةِ بعضٍ»
(الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن البيع على بيع أخيه، 3/587) .
وحَرَّم التقاتلَ بينهم: «إذا
تَوَاجَهَ المسلمان بسيفيهما ، فكلاهما من أهل النار . قيل : فهذا القاتل ، فما
بال المقتول؟ قال : إنه أراد قتلَ صاحبـِه»
(البخاري، كتاب الفتن ، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما) ونهى عن عصبية الجاهلية
وفخرها بالآباء، واعتزازها بالأنساب ؛ فلا فخر بعد الإسلام إلاّ بالتقوى والعمل
الصالح :
«إنّ
الله قد أَذْهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ ، وفخرَها بالآباء . مؤمنٌ تقيٌّ ،
وفاجرٌ شقيٌّ، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليَدَعَنَّ رجال فخرَهم بأقوام إنما هم
فحمٌ من فحمِ جهنمَ أو ليكونَنَّ أهونَ على الله من الجُعْلاَنِ التي تَدْفَعُ
بأنفها النتنَ»
(أبوداؤود، باب في التفاخر بالأحساب، 20/57).
ومن
حكمة الإسلام أنه جعل المسلمين بجميع ما فيه من الشرائع والأحكام يتحدون ولايتفرقون
، فكأن الإسلامَ بذاته دعوةٌ للاتحاد والوئام، والتضامن والانسجام . فعقيدتُه من
الإيمان باللهِ ورسولِه واليومِ الآخرِ والملائكةِ والكتابِ والنبيينَ والجنةِ
والنارِ والمقاديرِ وقيامِ الميزانِ والحسابِ والجزاءِ والعقابِ ، تُوَحِّدُ
المسلمين على أساس هذه الفكرة المركزية . والعباداتُ الإسلاميةُ من الأركان
الأربعة وغيرها والأحكامُ كلُّها تُوَحِّد المسلمين عواطفَ ومشاعرَ ورُؤىً
وأفكارًا، وتجمعهم على رصيفِ هدفٍ واحدٍ أسمى، هو هدفُ عبادةِ اللهِ واتباع ما
أمَرَ به ونهى عنه . وجميعُ الأوامر والنواهي وأفعالِ الخير التي كَلَّفَ بها الله
تعالى المسلمين تُوَحِّدهم قلبًا وتفكيرًا ، وتتجه بهم إلى جهة واحدة هي جهة
إطاعةِ اللهِ ورسولِه واجتنابِ عصيانِهما في كل من إطارِ القولِ والفعلِ، والسيرةِ
والسلوكِ .
وبعد
: فإن الأمة اليوم وقعت فريسةً لدواعي الاختلافِ والشقاقِ ، وتَوَزَّعَتْ بين
عصبياتٍ وكُتَلٍ لا تخدم الإسلامَ، وإنما تخدم مصالحَ الأعداءِ . ولذلك تَعَرَّضت
كنيتجة حتمية لذلك لأنواع من الذل والفشل ؛ فتمكّن منها الأعداء ، وعاثوا في
ديارها فسادًا وتدميرًا، وإبادة وإهلاكاً للحرث والنسل، ومحوًا للثقافة والحضارة
والتاريخ . ولايمكن التخلّص من هذا الواقع الأليم إلاّ بالعودة إلى الوحدة
الإسلامية والأخوة الإيمانية القائمة على القاسم المشترك من الإيمان الصحيح باللهِ
ورسوله، والكتابِ الذي نزل عليه، والقبلةِ الواحدةِ التي يتجه إليها المسلمون
جميعًا، ومن نبذ الخلافاتِ الفرعيةِ والنزاعاتِ الهامشية التي ستبقى ما بَقِيَتِ
العقولُ تُفَكِّر، والقلوبُ تَعِي، والأدمغة تعمل عملَها بنصابٍ مطلوبٍ .
ولابُدَّ
أن يَعِيَ المسلمون عاجلاً أن وحدتهم هي التي تَهْزِم الأعداءَ وتُفَرِّقُ جمعَهم
وتُشَتِّتُ كلمتَهم ؛ وأَنَّ تَفَرُّقَهُمْ هو الذي يَجْعَلُ الأعداءَ
يَنْتَصِرُون عليهم وَيَتَسَلَّطُون على رقابهم ، ويُذِلُّونَهُمْ بنحو تقشعرّ منه
الجلود، كما يحدث الآن ، حيث يجوسونَ خلال ديارهم ، ويداهمونهم في عقرِ دارِهم .
ومن
عجيبِ الأمرِ أن الأعداءَ اجتمعوا اليوم – رغم آلاف آلاف الخلافاتِ والصراعاتِ الشديدةِ
الكثيرةِ فيما بينهم – على أساس القاسم المشترك ، وهو محاربةُ المسلمين، ومعاداةُ
الله ورسوله، ومُحَادَّةُ الكتاب الذي أُنْزِلَ معه ، فَتَدَاعَوْا على المسلمين
تَدَاعِيَ الأكَلَةِ إلى قصعتها .
فَلْنَسْتَجِبْ
لنداءِ اللهِ ورسولِه لتوحيدِ الصفِّ ، وجمعِ الكلمةِ، والعودةِ إلى بَعْثِ
الأخوةِ الإسلاميةِ التي لا آصرة أقوى منها ، ولا رابطةَ أشرفُ منها وأقدس، ولا
علاقةَ أمتنُ منها وأدومُ ، وأنفعُ للبشرية منها وأجدى .
والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية - رجب
1427هـ = يوليو - أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.
(*) هذه المقالة ، قدّمها فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن حفظه الله
في الملتقى العالمي لعلماء المسلمين بعنوان Mوحدة الأمة الإسلاميةL الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة ما
بين 3 و 5/ 3/1427هـ الموافق 1-3/4/2006م والذي شارك فيه فضيلته على دعوة كريمة من
الرابطة . كما شارك في اجتماع الجمعية العمومية لهيئة التنسيق العليا للمنظمات
الإسلامية الذي عُقِدَ بمكة المكرمة يوم 6/3/1427هـ الموافق 4/4/2006م .
وMالداعيL تنشر المقالة على
صفحاتها تعميمًا للفائدة وتسجيلاً للمعنى التأريخي لها للأجيال القادمة .